كيف أصبحت الصين قوة اقتصادية عظمى
إن القفزة التي حققتها الصين لتصبح ثاني أكبر الاقتصادات في العالم لم تأت بمحض الصدفة. فعلي مدار أربعة عقود مضت اعتمدت الصين سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية كان من شأنها أن تجعل الصين قوة اقتصادية عظمى، بعدما فتحت الباب أمام الاستثمارات والشركات الأجنبية، ومن ثم أسهمت في زيادة تدفق رؤوس الأموال إلى الاقتصاد بشكل غير مسبوق.
نتيجة لذلك، تحول المشهد الاقتصادي لهذا العملاق الآسيوي من إطار محلي بالكامل يتسم بالتقليدية، إلى مشهد عصري يتسم بالديناميكية. كما اعتمدت الصين على قوتها البشرية العاملة، التي وصلت بنهاية العام 2019 إلى أكثر من 780 مليون نسمة.
في هذا المقال سوف نحاول الإجابة على سؤال رئيسي: كيف أصبحت الصين قوة اقتصادية عظمى ؟. وفي طريقنا للإجابة على هذا السؤال سنستعرض أهم العوامل التي كانت وراء نجاح الصين في التحول لقوة اقتصادية عالمية كبرى.
وسنبدأ من الاستراتيجيات التي اتبعتها الصين لتطوير اقتصادها وغزو الأسواق العالمية، وسياساتها التجارية التي تواجه مقاومة شرسة من مجموعة الدول الصناعية الكبرى في العالم. وكذلك أهم مظاهر الحرب الاقتصادية الدائرة بين الصين من ناحية والقوى العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي تسيطر على اقتصاد العالم، من ناحية أخرى.
أولًا: بعض الحقائق حول الاقتصاد الصيني
من المعروف أن الاقتصاد الصيني هو ثاني أكبر اقتصاد في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي الاسمي. كما أن الصين تمتلك أكبر احتياطي من النقد الأجنبي في العالم. لعلنا نتساءل: ما الذي ساعد الصين لتصل إلى هذه المكانة الاقتصادية المرموقة؟. أو بمعنى أدق كيف أصبحت الصين قوة اقتصادية عظمى؟.
قبل الإجابة على هذا التساؤل، يتوجب علينا أولًا قراءة بعض الحقائق الخاصة بمدى قوة الاقتصاد الصيني.
كما نعلم، حصلت الصين على استقلالها الكامل في العام 1949. غير أن النهضة الاقتصادية المذهلة لم تبدأ سوى في سبعينيات القرن الماضي.
ومع ذلك، يُحيط الغموض حجم الاقتصاد الصيني بشكل كبير، نظرًا لفرض قيود مُشددة على هذه البيانات من قبل الحكومة المركزية. وفي كثير من الأحيان يكون التوصل إلى معلومات موثقة عن هذا الاقتصاد أمرًا بعيد المنال، الأمر الذي دعا كثير من الاقتصاديين إلى إطلاق لقب “الاقتصاد المقيد بالحديد” على الاقتصاد الصيني.
بالرغم من ذلك، توجد بعض الحقائق المؤكدة حول الاقتصاد الصيني، مستمدة من المؤسسات الدولية، مثل: البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والمنتدى الاقتصادي العالمي WEF، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، وغيرها من المؤسسات الدولية.
في البداية، لنلق نظرة على حجم الاقتصاد الصيني من الشكل التالي:
الشكل رقم (1): حجم الاقتصاد الصيني
في السطور التالية نستعرض أبرز الحقائق حول الاقتصاد الصيني، وأبرز العوامل التي جعلت من الصين قوة اقتصادية عظمى :
ثانيًا: أبرز عوامل قوة الصين الاقتصادية
1. الموقع والمساحة
تقع جمهورية الصين الشعبية في شرق قارة آسيا، وتنقسم إلى 23 مقاطعة رئيسية، منها 5 مقاطعات ذاتية الحكم.
وتبلغ المساحة الإجمالية للصين نحو 9.6 مليون كيلومتر مربع، وتحتل المركز الرابع عالميًا من حيث المساحة بعد روسيا والولايات المتحدة وكندا.
2. عدد سكان الصين Population size
تخطى عدد سكان الصين حاجز 1.4 مليار نسمة بحسب تعداد 2022. لذلك تُعد الصين بذلك أكبر دولة من حيث عدد السكان والكثافة السكانية في العالم.
ومع ذلك تستفيد الصين بشكل كبير من هذه القوة البشرية الهائلة في مجالات الصناعة والزراعة والإنتاج.
3. الناتج المحلي الإجمالي للصين GDP
تحتل الصين المرتبة الثانية عالميًا (بعد الولايات المتحدة) من حيث حجم الناتج المحلي الإجمالي. وبلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي الصيني نحو 17.4 تريليون دولار في العام 2022.
ومن المتوقع أن يتخطى الناتج المحلي الإجمالي للصين حاجز الـ 19 تريليون دولار نهاية العام الحالي (2023).
4. نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي Per Capita Income
لعل الطفرة الكبيرة التي طرأت على نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي (على أساس تعادل القوة الشرائية) GDP per capita PPP تمثل أكبر دليل على النمو المذهل للاقتصاد الصيني مؤخرًا.
وقد بلغ نحو 17.600 دولار في العام 2022، مقارنة بنحو 10.300 دولار في العام 2012.
5. تمتلك الصين ما قيمته 23 تريليون دولار من الموارد الطبيعية
تمتلك الصين موارد وثروات طبيعية تُقدر قيمتها بنحو 23 تريليون دولار، لتحتل المرتبة السادسة بين دول العالم من حيث امتلاك الموارد الطبيعية.
وتتمثل معظم هذه الموارد في الفحم والمعادن الأرضية النادرة والأخشاب، وكذلك مساحات هائلة من الأراضي الزراعية الخصبة.
ونظرًا لتعدد ووفرة موارد المياه الطبيعية، تمتلك الصين أكبر إمكانات للطاقة الكهرومائية في العالم. هذا فضلًا عن كثير من الموارد الأخرى.
على سبيل المثال، تمتلك الصين احتياطيات ضخمة من: الغاز الطبيعي والنفط، وكميات هائلة من المعادن، مثل الذهب والألومنيوم والحديد وغيرها.
6. معدل البطالة Unemployment rate
بحسب التقديرات الرسمية الصينية، بلغ معدل البطالة في الصين نحو 5.3% في أغسطس 2022. وهو أفضل معدل للبلاد منذ أزمة جائحة كورونا.
وتجدر الإشارة إلى أن أزمة كورونا ساهمت بشكل كبير في ارتفاع معدل البطالة في الصين، حيث كان هذا المعدل يتجه بشكل عام نحو الانخفاض خلال السنوات التي سبقت الجائحة.
7. معدلات الفقر
منذ العام 1978، انتشلت الصين أكثر من 800 مليون نسمة من براثن الفقر، ما يُعد إنجازًا لا مثيل له في العالم الحديث.
وبلغت معدلات الفقر في جمهورية الصين أقل من 15% في العام 2020، بعدما تجاوزت حاجز 70% في العام 2005!.
8. مُعدل نمو الناتج المحلي الإجمالي GDP growth
حققت الصين متوسط نمو في الناتج المحلي الإجمالي يقترب من 10% سنويًا منذ العام 1978 حتى العام 2011. غير أن جائحة كورونا تسببت في تراجع هذا المعدل ليصل إلى 2.2% العام 2020.
ومع ذلك، تمكنت الصين من الخروج من هذه الكبوة بمعدلات نمو تخطت 8% في العام التالي 2021. وتستهدف الصين تحقيق معدل نمو بأكثر من 9% خلال العام الحالي (2023).
9. القطاع الخاص الصيني Private Sector
يمثل القطاع الخاص في الصين المحور الرئيسي للنمو الاقتصادي. وقد ساهمت شركات القطاع الخاص بما يُعادل من ثُلثي إلى ثلاثة أرباع الناتج المحلي الإجمالي للصين في الفترة 2010 – 2020.
كما يُساهم القطاع الخاص بنحو 90% من إجمالي الصادرات الصينية.
10. حجم الصادرات الصينية: أبرز دليل على قوة الصين الاقتصادية
تحتل جمهورية الصين الشعبية صدارة ترتيب دول العالم اقتصاديًا من حيث حجم الصادرات. وبحسب التقديرات الرسمية، بلغ حجم الصادرات الصينية إلى العالم الخارجي مستويات قياسية في العام 2020، بحوالي 2.6 تريليون دولار.
بالتالي تفوقت الصين على الولايات المتحدة (ثاني أكبر مُصدر في العالم) بنحو تريليون دولار.
11. طبيعة الصادرات الصينية
حوالي 94% من إجمالي صادرات الصين السلعية عبارة عن سلع مصنعة، و 3.2% منتجات زراعية، ونحو 2.7% منتجات وقود وتعدين.
12. الشركاء التجاريين الرئيسيين للصين (المستوردون)
تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أكبر مستورد للسلع والمنتجات الصينية، إذ تستورد نحو 20% من صادرات الصين. يليها الاتحاد الأوربي بنحو 16%.
وفي المرتبة الثالثة مجموعة دول آسيا والمحيط الهادئ (الآسيان) التي تستقبل حوالي 13% من الصادرات الصينية. كذلك هونج كونج: 12%، ومن بعدها اليابان: 6%. وتستقبل بقية دول العالم مجتمعة حوالي 33% من الصادرات الصينية.
13. مساهمة القطاعات المختلفة في الاقتصاد الصيني
طبقًا لبيانات العام 2021، كانت مساهمة القطاعات الرئيسية الثلاثة في الاقتصاد الصيني على النحو التالي:
- قطاع الخدمات: 53.3%
- القطاع الصناعي: 39.4%.
- من ثم القطاع الزراعي: 7.3%.
بالتالي يستحوذ قطاع الخدمات على النصيب الأكبر من حيث المساهمة في قوة الصين الاقتصادية.
14. التوظيف بحسب القطاعات
طبقًا لبيانات المكتب الوطني الصيني للإحصاء National Bureau of Statistics of China، كان قطاع الخدمات يمثل أكبر مصدر للتوظيف عام 2021 (36.1%). يليه القطاع الصناعي (33%)، ثم القطاع الزراعي (30.3%).
15. الصين هي أكبر مصدر لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري
كونها من أكبر الدول الصناعية في العالم، وأكبر مُصنع للسلع على الإطلاق، فقد أنتجت الصين حوالي 9.3 جيجا طن متري من ثاني أكسيد الكربون في العام 2019، وهو ما يمثل حوالي 28% من إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم.
وجاءت بعد الصين كل من الولايات المتحدة والهند على التوالي.
16. الاستثمار الأجنبي المباشر كمصدر لـ قوة الصين الاقتصادية
حققت الصين طفرة كبيرة تمثلت في قدرتها على جذب كم هائل من الاستثمارات ورؤوس الأموال الأجنبية عقب انفتاحها الاقتصادي.
وكانت الصين ثاني أكبر وجهة للاستثمار الأجنبي المباشر في عامي 2018 و 2019، حيث تلقت 235 مليار دولار أمريكي في عام 2018، بفارق ضئيل عن الولايات المتحدة صاحبة المركز الأول (261 مليار دولار)، وذلك طبقًا لتقرير منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي.
17. احتياطات النقد الأجنبي الصينية
تمتلك الصين أكبر احتياطي من العملات الأجنبية في العالم. وتبلغ احتياطياتها من النقد الأجنبي حوالي 3.10 تريليون دولار، احتلت بها المرتبة الأولى عالميًا في مايو 2020. تليها اليابان وسويسرا.
الآن، وبعد أن استعرضنا بعض الحقائق الرئيسية المؤكدة عن مدى قوة الاقتصاد الصيني، ننتقل إلى بعض النقاط التي تقودنا إلى الإجابة على التساؤل الرئيسي للمقال: كيف أصبحت الصين قوة اقتصادية عظمى ؟
ثالثًا: استراتيجيات التدويل التي اتبعتها الصين
المقصود بمصطلح استراتيجيات التدويل Internationalization Strategies هو تلك الاستراتيجيات التي تتبعها الدول أو المؤسسات أو الشركات، وتهدف من خلالها إلى بناء أو خلق ميزة تنافسية عبر التواجد الفعال في أسواق العالم الخارجية.
ويكون الاعتماد الأساسي في هذه الاستراتيجيات على عنصرين رئيسيين، هما:
- التجارة الدولية
- الاستثمار الأجنبي المباشر
وبالتالي، ومن خلال هذين العنصرين، يمكن للدولة أن تفتح كل الآفاق الممكنة لتصدير منتجاتها إلى الأسواق الدولية. وأيضًا خلق مناخ جاذب للاستثمارات الأجنبية يُساعد على تدفق رؤوس الأموال الأجنبية إلى البلاد من دون قيود.
وقد تبنت الصين نهجًا يقوم على التوازن بين العنصرين، إذ هيأت كل السبل للتيسير على المصنعين والمصدرين المحليين (لا سيما القطاع الخاص). كما فتحت المجال على مصراعيه أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
كل ذلك كان يتطلب بناء استراتيجيات فعالة في مجالات التجارة الخارجية والتكنولوجيا ودعم البحث العلمي وتشجيع الصناعات الصغيرة والمتوسطة، وغير ذلك من الأمور التي سنتعرف عليها في السطور التالية.
1. السياسة التجارية للصين
إن الوجه الأبرز في استراتيجيات التدويل التي اتبعتها الصين للتحول إلى قوة اقتصادية عظمى هو التجارة بلا شك. لذلك، انطلقت الصين لغزو الأسواق العالمية، لتشهد أعداد الشركات الصينية الكبرى العاملة بالخارج زيادة مطردة منذ عام 2000.
وقد شرعت الصين في بناء استراتيجيتها التجارية على أساس أربع أولويات رئيسية، هي:
- تشجيع الابتكار المحلي.
- ضمان الوصول إلى الاكتفاء الذاتي.
- تعزيز الأمن القومي.
- إصلاح السوق والانفتاح على الأسواق العالمية.
الشكل التالي يزودنا بفكرة مبدئية عن المحاور الرئيسية لاستراتيجية الصين التجارية:
الشكل رقم (2): محاور الاستراتيجية التجارية للصين
على الجانب الآخر، قامت الشركات الأجنبية بتحويل إنتاجها إلى الصين للاستمتاع باقتصادات الحجم الكبير وتأمين حصص من السوق المحلي الكبير في الصين.
نتيجة لذلك، أضحت الصين خلال الفترة من عام 2015 إلى عام 2017 ثاني أكبر مصدر للاستثمار الأجنبي المباشر في الخارج وثاني أكبر متلقٍّ للاستثمار الداخلي.
2. المشروعات المشتركة ودورها في قوة الصين الاقتصادية
تمثل هذه المشروعات المشتركة المحرك الرئيسي لنمو الاقتصاد الصيني خاصة على المستوى المحلي. ويمكن للشركات الأجنبية القيام بمشروعات تجارية تضمنها الحكومة الصينية.
وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن عدد الشركات الأجنبية التي أنشئت في الصين منذ عام 1978 وحتى العام 2019 وصل إلى نحو 20000 شركة.
كذلك، وفي إطار سعيها المتواصل لاجتذاب رؤوس الأموال، قد تتجه الشركات الصينية الكبرى إلى استيعاب الشركات الأجنبية الأصغر حجمًا.
وتقوم المشاريع المشتركة بتطوير شبكات العلاقات لتقليل تكاليفها وتعظيم أرباحها من خلال البحث عن تحالفات استراتيجية.
3. عمليات الاندماج والاستحواذ أسهمت في جعل الصين قوة اقتصادية عظمى
تسارعت عمليات الاستحواذ على الشركات الأجنبية على مستوى العالم على مدار السنوات الأخيرة. ومن خلال هذه العمليات اتجهت الصين لتعزيز حضورها في الأسواق العالمية. ومن ثم تعزيز مكانتها باعتبارها قوة اقتصادية عظمى في العالم.
ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك عمليات شراء الشركات المفلسة أو المتعثرة ماليًّا في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما حدث في حالة ولايات حزام الصدأ الأمريكية Rust Belt.
ويُقصد بولايات حزام الصدأ مجموعة الولايات الواقعة شمال شرق الولايات المتحدة الأمريكية وولايات الغرب الأوسط والبحيرات الكبرى، حيث عانت هذه الولايات من حالة تدهور اقتصادي خاصة في القطاع الصناعي.
وهو الأمر الذي جعلها مطمعًا للتنين الصيني بغرض توسيع نفوذه في عقر دار الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال شراء العديد من الشركات التي على وشك الإغلاق في هذه المنطقة.
وفي اتجاه جديد للتنين الآسيوي، فإن عدد من الشركات الصينية المملوكة للدولة بدأت خلال السنوات الأخيرة تسعى للاستحواذ على شركات كبرى تعمل في قطاعي التعدين والطاقة، وهي المساعي التي تلقى مقاومة متزايدة من القوى الغربية للتصدي لغزو المنتجات الصينية لأسواقها.
4. مساعي الصين للسيطرة على صناعة التكنولوجيا في العالم
التكنولوجيا هي بوابة الحاضر والمستقبل، ولا يخفى على أحد الطفرة الهائلة التي حققتها الصين في هذا المجال خلال العقدين الأخيرين.
وأفضل مثال على ذلك نستمده من رائد الأعمال الصيني نيل شين Neil Shen، المدير والشريك المؤسس للفرع الصيني لشركة سيكويا كابيتال Sequoia Capital العملاقة، المتخصصة في مجالي صناعة التكنولوجيا وإدارة صناديق الاستثمار.
وقد تصدر نيل شين قائمة ميداس Midas بكونه أفضل مستثمر في العالم لعام 2018، وأفضل مُنظمي الصفقات في مجال التكنولوجيا وعلوم الحياة في العالم عام 2020،
وهو الأمر الذي كان بمنزلة انتصار عظيم للصين. حيث إن هذه القائمة السنوية التي تصدرها مؤسسة فوربس العالمية للشركات تشهد منافسة شرسة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية.
ورغم التفشي الواسع لفيروس كورونا، فإن ذلك لم يكبح سرعة الصين في السيطرة على صناعة التكنولوجيا في العالم.
5. دعم الحكومة الصينية للبحث العلمي والتكنولوجيا
مع إدراك الحكومة الصينية لأهمية الابتكار العلمي والتكنولوجيا في دفع عجلة النمو الاقتصادي للبلاد، وصل حجم الإنفاق على البحث العلمي والتطوير في الصين بنهاية عام 2018 وفقًا لبيان المكتب الوطني الصيني للإحصاء إلى نحو تريليوني يوان، بزيادة 11.6% عن العام السابق عليه، منها 111.8 مليار يوان لتمويل البحوث الأساسية.
وفي ظل إجراءات التحفيز التي تتخذها الحكومة الصينية لدعم صناعتها المحلية في مجال التكنولوجيا، تواجه الشركات الأجنبية في الغالب صعوبة في منافسة الشركات الصينية داخل الصين.
وتلجأ شركات التكنولوجيا الصينية بشكل أساسي لإعادة شراء شركات أخرى أو إنشاء مشاريع مشتركة للاستفادة من مزايا قدرة الابتكار من الخارج.
أما الشركات الأجنبية فهي تستثمر في مجال البحث والتطوير في الصين؛ نظرًا لما تتمتع به الأخيرة من وفرة القوى العاملة المتعلمة والمدربة وغير المكلفة.
رابعًا: العلامات التجارية الصينية ضمن قائمة الـ 100 الأقوى عالميًّا
إن جملة “صنع في الصين” طالما كانت مرادفة لانخفاض الأسعار، وهو ما جعل العلامات التجارية الصينية خيارًا جذابًا للمستهلكين.
وخلال عام 2019، دخلت 15 علامة تجارية صينية قائمة الـ 100علامة الأقوى عالميًّا وفقا لـ”براندز” للتصنيف السنوي الأشهر عالميًّا للعلامات التجارية.
وفي هذا الإطار، ذكرت “براندز” -التي تمتلك أكبر قاعدة بيانات في العالم- أن القيمة الإجمالية لأكبر 100 علامة تجارية صينية قفزت بنسبة 30% لتصل إلى 889.7 مليار دولار- في أكبر زيادة سنوية منذ إطلاق التصنيف عام 2011.
الشكل التالي يبرز أقوى العلامات التجارية الصينية التي تنافس عالميًا في مجال التكنولوجيا:
الشكل رقم (3): أقوى العلامات التجارية الصينية في مجال التكنولوجيا
وبحسب قائمة “براندز” التي تعدها شركة الإعلانات العالمية WPP بالتعاون مع “كانتار”، شهدت العلامات الصينية نموًّا هائلًا في ظل سعي الشركات إلى بناء علامات تجارية أقوى في الساحة العالمية.
خامسًا: جهود الصين في مواجهة الاتهامات بانتهاك حقوق الملكية الفكرية
في إطار سعيها لتصبح أكبر قوة اقتصادية في العالم، لاتزال الصين تواجه اتهامات –خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية- بتقليد المنتجات وسرقة حقوق الملكية الفكرية.
وبحسب الادعاءات الأمريكية، حققت الصين من خلال هذه الانتهاكات مكاسب اقتصادية تفوق التصور على مدى عقود من الزمن.
غير أن الصين تسعى بكل قوة لتغيير هذه الصورة والنهوض بالبحث العلمي والتكنولوجيا من خلال:
- إنشاء تحالفات ثلاثية بين الحكومة والجامعات والقطاع الصناعي
- الاستعانة بالخبراء الصينين وطلاب التكنولوجيا في الخارج. وقد وصل إجمالي عدد الطلاب الصينيين بالخارج خلال عام 2017 إلى أكثر من 608 آلاف طالب.
- إرسال البعثات للتدريب بالخارج.
ورغم إعلان الحكومة الصينية استعدادها لسن تشريع لحماية حقوق الملكية الفكرية وتشجيع البحث والتطوير في الصين، فإنها لم تتخذ إجراءً فعليًّا حتى الآن.
سادسًا: صراع التكنولوجيا: أحد أشكال النزاع التجاري بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية
يمكن القول إن الحرب التجارية القائمة منذ سنوات بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية كانت واحدة من الأسباب وراء سعي الصين الدؤوب للسيطرة على مستقبل التكنولوجيا ومن ثم الإطاحة بالقوة الأولى-الولايات المتحدة الأمريكية.
– هواتف هواوي بدون نظام أندرويد
ولعل أبرز مثال على سعي الصين إلى كسب معركة التكنولوجيا أمام الولايات المتحدة الأمريكية، ذلك الجدل الدائر بشأن مخططات شركة هواوي Huawei الصينية لإنشاء نظام تشغيل جديد خاص بها بديلًا عن أندرويد Android.
جاء ذلك بعد إعلان شركة جوجل أنها ستوقف مد الشركة الصينية بنظام أندرويد، لتصبح جميع تطبيقات جوجل بموجب هذا الإعلان عرضة للحظر.
سابعًا: السياسات التجارية الصينية بين حماية المنتج الصيني وإشعال النزاع مع الغرب
تواجه الصين انتقادات كبيرة من القوى الكبرى التي ترتبط معًا بعلاقات تجارية. على سبيل المثال، رفضت الدول الغربية وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية حصول الشركات الصينية –أبرزها شركة هواوي- على مساعدات حكومية وإعفاءات ضريبية.
نتيجة لذلك طالبت بإيقافها، ووصفتها بغير العادلة وتضر بقواعد المنافسة الدولية خاصة داخل السوق المحلية الصينية؛ لأنها تقوم بحماية المنتجات الصينية ومنحها ميزة نسبية في مواجهة المنتجات الأجنبية.
ثامنًا: قطاع اللوجستيات ودوره في دعم نمو الاقتصاد الصيني
على الرغم من أن الصين تُعد رسميًّا أكبر مشترٍ للمواد الخام على مستوى العالم، فإنها تلجأ إلى جلب كميات كبيرة من المواد الخام -خاصة من إفريقيا وعدد من الدول النامية- دون استخدام القنوات الرسمية.
لذلك تتجه بعض الشركات الصينية إلى إبرام عقود مع حكومات هذه الدول لشراء أو تأجير أراضي، ومن ثم زراعتها أو استخراج المواد الخام منها، وإرسال هذه المواد الخام أو المحاصيل الزراعية مباشرة إلى الصين؛ وبهذا تقلل مدفوعاتها بالعملات الأجنبية.
وكما أشرنا، فإن واردات الصين تتمثل بشكل عام في المواد الزراعية والمواد الخام. حيث تستورد الصين المنتجات الزراعية من دول جنوب وشرق آسيا إضافة إلى الأرجنتين. كما تستورد المواد الخام من دول آسيا الوسطى وإفريقيا.
ومن هنا عمد التنين الصيني إلى إنشاء سلسلة من المصانع في إفريقيا وآسيا. ومع إنشاء مبادرة الحزام والطريق، سيتم تخصيص طرق برية وبحرية لسد احتياجات الصين من المواد الخام والطاقة.
تاسعًا: مبادرة الحزام والطريق: تجسيد لفكرة الصين قوة اقتصادية عظمى
في ظل الحرب التجارية المستمرة منذ سنوات بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، عمدت الصين إلى تعزيز نفوذها التجاري من خلال العديد من الاتفاقات التجارية والمبادرات خاصة مع الدول العربية.
وتقوم مبادرة الحزام والطريق Belt and Road Initiative، التي أطلقتها الصين عام 2013، على فكرة إعادة إحياء طريق الحرير التجاري القديم Silk Road، والذي كان يمتد عبر آسيا وإفريقيا وأوروبا لنقل البضائع من تلك المناطق إلى الصين، وبالعكس.
ووفقًا لبيانات وزارة التجارة الصينية، فإن 15 مليار دولار، أي ما يعادل 13.6 في المائة من الاستثمارات، ذهبت إلى دول تقع ضمن المبادرة.
يمكننا التعرف بشكل أوثق على طريق الحرير البري والبحري من خلال الشكل التالي:
الشكل رقم (4): مسارات مبادرة الحزام والطريق
عاشرًا: جهود الصين في مكافحة الفساد
لم يكن أن تُصبح الصين قوة اقتصادية عظمى بدون القضاء على الفساد. ومنذ بداية النهضة الاقتصادية، وضعت الصين نصب أعينها اجتثاث الفساد وجعلته ضمن أولوياتها،
ومنذ عام 2012 شهدت الصين -وفقا للجنة الانضباط بالحزب الشيوعي الصيني الحاكم- معاقبة أكثر من 1.5 مليون مسئول فاسد في الصين. كما خضع أكثر من 440 مسئول حكومي رفيع المستوى للتحقيق.
ورغم النتائج الإيجابية التي أسفرت عنها إجراءات الإصلاح الاقتصادي، فإن الصين شهدت منذ بدء تنفيذ هذه الإجراءات مستويات متزايدة من الفساد على غرار الاقتصادات الاشتراكية الأخرى التي أجرت إصلاحات مماثلة، مثل دول أوروبا الشرقية إثر انهيار الاتحاد السوفيتي.
وقد صنف مؤشر مدركات الفساد لعام 2017 -الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية- الصينَ في المرتبة 77 من بين 180 دولة.
حادي عشر: الاقتصاد الصيني بعد أزمة كورونا
لاشك أن تداعيات تفشي فيروس كورونا عصفت بجميع اقتصادات العالم في ظل سياسات الإغلاق التي اتبعتها معظم الدول بعد زيادة أعداد المصابين والوفيات جراء الفيروس.
غير أن الصين حظيت باهتمام خاص، ليس فقط لأن مدينة ووهان الصينية كانت أول بقعة ظهر فيها الفيروس، وإنما بسبب الدور المحوري للاقتصاد الصيني الذي تعرض للمرة الأولى منذ عقود للانكماش؛
نتيجة لذلك، أظهرت التقديرات الرسمية تراجع الاقتصاد الصيني، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، بنحو 6.8 في المائة.
وقد ظهرت بعض الآراء مؤخرًا اعتبرت أزمة كورونا مؤامرة على اقتصاد الصين، نظرًا لأن مدينة ووهان تعد قلعة صناعية ضخمة تقع بداخل مقاطعة “هوباي” جنوب بكين، وهي المقاطعة التي تساهم بنحو 78% من صادرات الصين و33% من الناتج المحلي الصيني.
ثاني عشر: سلاح الاقتصاد في مواجهة الأسلحة التقليدية
إن النزاع التجاري بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين هو أكبر دليل على أن الحروب بشكلها التقليدي لم تعد هي الوسيلة المُثلى للسيطرة على العالم.
وهذا ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية لاتخاذ مزيد من إجراءات السياسة الحمائية لمنع الغزو الصيني لأسواقها. كما وصل الأمر مؤخرًا إلى حد أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب اعتبر شركة الاتصالات الصينية هواوي خطرًا على الأمن القومي.
ويبدو أن الصين لا تخوض حربها الاقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية منفردة، بل مع معظم الدول الكبرى.
على سبيل المثال، اشترط رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون خلال كلمته أمام قمة حلف الناتو NATO للسماح لشركة هواوي بدور في بناء شبكات الجيل الخامس في بريطانيا ضمان استمرار التعاون مع الولايات المتحدة بشأن تبادل المعلومات الاستخباراتية.
لذلك، ضاعفت الصين من جهودها لتعزيز مكانتها الاقتصادية أمام الولايات المتحدة الأمريكي. ولعل تعزيز العلاقات التجارية وإبرام الاتفاقيات مع الدول الآسيوية والعربية هي واحدة من أسلحة الصين للانتصار في معركتها الاقتصادية ضد الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، خاصة مع فرض الأخيرة قيودًا على استيراد المنتجات الصينية.
الخلاصة
- تعرفنا في هذا المقال على أبرز العوامل التي ساهمت في أن تصبح الصين قوة اقتصادية عظمى في العالم الحديث.
- وفي البداية استعرضنا بعض الحقائق المهمة حول الاقتصاد الصيني:
- تمتلك الصين ثاني أقوى اقتصاد في العالم، إذ بلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي الصيني نحو 17.4 تريليون دولار في العام 2022.
- تخطى عدد سكان الصين حاجز 1.4 مليار نسمة، وهي أكبر دول العالم من حيث عدد السكان. غير أن الغالبية العظمى من السكان الصينيين منتجون.
- بلغ معدل البطالة في الصين نحو 5.3% في أغسطس 2022.
- تحتل الصين صدارة ترتيب دول العالم من حيث حجم الصادرات. إذ بلغ حجم الصادرات الصينية إلى العالم الخارجي مستويات قياسية في العام 2020، بحوالي 2.6 تريليون دولار.
- كذلك تمتلك الصين أكبر احتياطي من العملات الأجنبية في العالم. وتبلغ احتياطياتها من النقد الأجنبي حوالي 3.10 تريليون دولار.
- وقد نجحت الصين في التحول من دولة معزولة إلى واحدة من أعظم القوى الاقتصادية في العالم مع انتهاجها سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية:
- أهم الاستراتيجيات التي نفذتها الصين:
- السياسة التجارية للصين: حولت الشركات الأجنبية إنتاجها إلى الصين للاستمتاع باقتصادات الحجم الكبير وتأمين حصص من السوق المحلي الكبير في الصين. كما ساعد دعم الحكومة الصينية للاستثمار الأجنبي الشركات الأجنبية على إقامة مشروعات مشتركة.
- عمليات الاندماج والاستحواذ: التي كانت من أهم الأدوات التي لجأت إليها الصين لتعزيز حضورها في الأسواق العالمية. واتجهت عدد من الشركات الصينية في السنوات الأخيرة للاستحواذ على شركات كبرى تعمل في قطاعي التعدين والطاقة.
- الاهتمام بالبحث العلمي والتكنولوجيا: كان لإدراك الحكومة الصينية أهمية الابتكار العلمي والتكنولوجيا دور كبير في دفع عجلة النمو الاقتصادي للبلاد، وكان سببًا وراء زيادة إنفاقها على هذا المجال، في مسعى لتغيير صورتها أمام الغرب فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الملكية الفكرية.
- العلامة التجارية الصينية: خلال عام 2019 دخلت 15 علامة تجارية صينية قائمة الـ100علامة الأقوى عالميًّا، خاصة أن العلامة التجارية للصين لاتزال خيارًا جاذبًا للمستهلكين لانخفاض أسعارها.
للمزيد من المقالات ذات الصلة، يرجى متابعة موقع بورصات.