أثر السياسة النقدية على سعر الصرف
إذا رغبنا في معرفة أثر السياسة النقدية على سعر الصرف، فيجب علينا أولًا معرفة أنواع السياسة النقدية وأهدافها وتأثيراتها على الاقتصاد عمومًا.
وليس هناك من شك في أن كل دولة تضع نصب أعينها ضمان سعر صرف مناسب لعملتها في أسواق الصرف العالمية مقابل العملات الأخرى، حيث تلعب أسعار صرف العملات دورًا حيويًّا في حركة التبادل التجاري بين الدول، خاصًة مع اتساع دائرة النشاط التجاري.
ولذلك تضطر الدولة أحيانًا، ممثلة في بنكها المركزي، إلى التدخل -من خلال أدوات السياسة النقدية المتاحة لها– لتحقيق عدد من الأهداف، مثل الحفاظ على استقرار الأسعار، واستقرار وتيرة النمو الاقتصادي في البلاد، بالإضافة إلى التأثير في سعر صرف عملتها بما يخدم اقتصادها الوطني.
ومن هنا سوف نتناول في هذا المقال موضوع أثر السياسة النقدية على سعر الصرف. وفيه سنوضح أولًا تعريف السياسة النقدية التي قد يتبعها البنك المركزي للدولة، وأثر هذه السياسة على سعر صرف عملتها. كما سنعرض لأهم أنواع السياسة النقدية وأهدافها وتأثيراتها المختلفة على أسعار صرف العملات. وأخيرًا سنناقش كيفية صياغة البنوك المركزية لسياساتها النقدية.
بداية لنتعرف على السياسة النقدية للبنوك المركزية وأهدافها بشكل عام.
أولًا: ما هي السياسة النقدية للبنك المركزي؟ وما أهدافها؟
يمكن استخدام مصطلح السياسة النقدية Monetary Policy لوصف العملية التي يتحكم من خلالها البنك المركزي في كل دولة في حجم المعروض النقدي Money Supply أو إجمالي الأموال المتاحة للاستثمار والانفاق، وهو ما يؤثر بدوره على حجم الطلب على العملة وسعر صرفها.
الشكل أدناه يوضح لنا الأهداف الرئيسية للسياسة النقدية:
شكل رقم (1): أهداف السياسة النقدية
ومن هذا المنطلق يُمثل البنك المركزي Central Bank سلطة نقدية تهدف بشكل أساسي لضمان استقرار الأسعار، وتحقيق التوازن بين معدلات التضخم ومعدلات النمو الاقتصادي في البلد الذي ينتمي له.
وبطبيعة الحال، فإن ارتفاع سعر الصرف الأجنبي Exchange Rate مقابل العملة المحلية يؤدي إلى ارتفاع أسعار الواردات مقابل انخفاض أسعار الصادرات، وهو ما يؤدي إلى اختلال ميزان التبادل التجاري. الأمر الذي قد يتسبب في تباطؤ نمو الاقتصاد ككل في تلك الدولة، والعكس صحيح.
غير أن هناك فريقًا من الاقتصاديين في المقابل يرى أن انخفاض سعر صرف العملة المحلية من شأنه تحفيز النمو الاقتصادي، حيث يؤدي ارتفاع أسعار الواردات من السلع الأجنبية إلى عزوف المستهلكين عن تلك السلع، وهو ما قد يعطي ميزة تنافسية للسلع المحلية.
كما يؤثر المعروض النقدي Money Supply على قيمة العملة بشكل كبير. على سبيل المثال، فإن زيادة المعروض النقدي تعني أن هناك أموال متاحة للاستثمارات والإنفاق، الأمر الذي من شأنه تحفيز الاقتصاد. أما انخفاض المعروض النقدي فيؤدي بدوره إلى تباطؤ الاقتصاد وتقييد نموه.
وكما هو معروف، تنقسم السياسة النقدية إلى نوعين رئيسيين، لكل نوع منهما أهدافه، والتي سنتعرف عليها في السطور التالية.
ثانيًا: أنواع السياسة النقدية
كما أشرنا من قبل، فإن تأثير السياسة النقدية على أسعار الصرف يُمثل أحد أهم الموضوعات التي تشغل الحيز الأكبر من تفكير الحكومات. وتقوم هذه السياسة على العلاقة بين أسعار الفائدة وإجمالي المعروض النقدي في الاقتصاد.
وتسعى السياسة النقدية إلى تحقيق نمو اقتصادي متوازن وضمان استقرار معدلات التضخم عند مستويات آمنة لا تضر بالاقتصاد. ولذلك، ينتهج البنك المركزي أحد نوعين من السياسات التي من شأنها التأثير على أسعار صرف العملات.
وبطبيعة الحال، لكل نوع من أنواع السياسة النقدية تعريفه وأهدافه وآثاره، والتي نتعرف عليها أولًا من الشكل التالي:
شكل رقم (2): أنواع السياسة النقدية وتأثيراتها على الاقتصاد
وكما نلاحظ، لكل نوع إجراءات وأهداف مختلفة إلى حد كبير. لنتعرف الآن على كل نوع بشيء من التفصيل.
(1) سياسة نقدية توسعية (سياسة التيسير النقدي) Accommodative (Expansionary Monetary Policy)
وبانتهاج البنوك المركزية سياسة نقدية توسعية؛ فهي تقوم بضخ مزيد من النقود في الأسواق؛ أو بمصطلح آخر زيادة المعروض النقدي من خلال خفض أسعار الفائدة. ومن ثم تقليص نفقات الاقتراض، وهو ما يسهم في إتاحة رؤوس أموال للاستثمار والإنفاق.
– أهداف السياسة النقدية التوسعية وآثارها على الاقتصاد
تهدف السياسة النقدية التوسعية إلى زيادة النمو والنشاط الاقتصادي للدولة، من خلال ضخ مزيد من الأموال في الاقتصاد (زيادة المعروض النقدي). ويتم استخدامها غالبًا في حالات الركود الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة.
غير أنه في حالة زيادة المعروض النقدي وزيادة حجم الإنفاق الاستهلاكي بشكل سريع، فإن مثل هذه السياسة قد تؤتي نتائج عكسية. على سبيل المثال، قد تتسبب -كما ذكرنا- في ارتفاع الأسعار، ومن ثم زيادة معدلات التضخم بما قد يضر بالاقتصاد.
(2) سياسة نقدية انكماشية (سياسة التقييد النقدي) Restrictive Monetary Policy
باتباع السياسة النقدية الانكماشية يلجأ البنك المركزي إلى تقليص المعروض النقدي من خلال زيادة أسعار الفائدة. وهو الإجراء الذي سيتسبب في الحد من قدرة الكيانات التجارية والأسر على الاقتراض.
بالتالي فإن تقييد الاقتراض سيحد بدوره من النشاط الاستثماري للشركات. كما سيقلص حجم الطلب والإنفاق على السلع والخدمات، وهو ما قد يتسبب في تباطؤ النمو الاقتصادي.
ثالثًا: أثر السياسة النقدية على سعر الصرف
مما سبق نستنتج أن كل نوع من أنواع السياسة يكون له تأثير مباشر على سعر الصرف. ولكن، كيف يحدث هذا التأثير؟
(أ) أثر السياسة النقدية التوسعية على العملة وسعر الصرف
مع زيادة الإنفاق الاستهلاكي، فإن السياسة النقدية التوسعية قد تتسبب في ارتفاع معدل التضخم وارتفاع أسعار السلع والخدمات، وهو ما قد يؤدي إلى خفض القوة الشرائية للعملة. كما أن انخفاض أسعار الفائدة يعني حصول المستثمرين على عائد أقل على مدخراتهم النقدية في البنوك.
ومن هنا يميل المستثمرون الأجانب إلى تقليص مراكزهم في السندات المحلية والعقارات والأسهم والأصول الأخرى. كما سيبحث المستثمرون المحليون عن معدلات عائد أكثر جاذبية في الخارج، وهو ما سيؤدي إلى انخفاض نشاط الاستثمار المحلي. ومن ثم انخفاض الطلب على العملة المحلية وارتفاع الطلب على عملات الدول الأجنبية.
ونتيجة لذلك، سوف يميل سعر صرف العملة المحلية إلى الانخفاض.
(ب) أثر السياسة النقدية الانكماشية (سياسة التقييد النقدي) على العملة وسعر الصرف
على عكس السياسة النقدية التوسعية، يقوم البنك المركزي في إطار سياسة التقييد النقدي (السياسة الانكماشية) برفع أسعار الفائدة الحقيقية، وهو ما يجعل الأصول المالية والرأسمالية أكثر جاذبية نظرًا لزيادة العائد عليها، وسيتجه المستثمرون الأجانب لتوسيع مراكزهم في أسواق السندات المحلية والعقارات والبورصات.
كما سيتجه المستثمرون المحليون للاستثمار بشكل أكبر داخل سوقهم المحلي، ليسهم هذا النشاط الاستثماري في زيادة الطلب على العملة المحلية. ونتيجة لذلك فإن سعر صرف العملة سيرتفع في الأسواق.
الشكل التالي يلخص لنا أثر السياسة النقدية، التوسعية والانكماشية، على سعر الصرف:
شكل رقم (3): أثر السياسة النقدية، التوسعية والانكماشية، على سعر الصرف
وبالتالي يتضح أن أهم أهداف السياسة النقدية الانكماشية تتمثل بشكل أساسي في الحد من معدلات التضخم التي ينجم عنها ارتفاع تكاليف المعيشة.
رابعًا: كيف تختار البنوك المركزية سياستها النقدية؟
كما سبق وأشرنا، تقوم البنوك المركزية بانتهاج السياسة النقدية التي تتناسب مع الوضع العام للاقتصاد. ومع ذلك، هناك عوامل أخرى تلعب دورًا مهمًا ومحوريًا في توجهات البنوك المركزية وقراراتها.
(1) مؤشرات الاقتصاد الكلي التي تتحكم في قرارات البنك المركزي
تتحكم عدد من مؤشرات الاقتصاد الكلي، مثل معدلات النمو والبطالة والتضخم –التي يقدرها البنك المركزي وفق منهجيته الخاصة– في قرارات البنك المركزي الخاصة باستخدام أدوات السياسة النقدية لتحقيق أهدافه.
على سبيل المثال، عادة ما تحدد البنوك المركزية، خاصة في الدول المتقدمة، مستويات آمنة لهذه المؤشرات لا يجب تجاوزها، وهي المستويات التي تحافظ على استقرار الأسعار وتضمن نمو اقتصادي معتدل.
كمثال على ذلك، يعتبر تراجع معدل التضخم عن الحد الأدنى الذي حدده البنك المركزي مؤشرًا على حالة من الركود الاقتصادي. وهو الأمر الذي يستلزم من البنك المركزي انتهاج سياسة نقدية توسعية. والعكس صحيح.
(2) الفترة الزمنية اللازمة لتعديل السياسة النقدية
وإدراكًا من البنوك المركزية لأهمية تأثير السياسة النقدية على أسعار صرف عملتها، وأيضًا في مسعى للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي بشكل عام، فإن البنك المركزي عادة ما يبدأ في تعديل سياسته النقدية بشكل تدريجي حتى يتسنى له تقييم مدى تأثيرها على الوضع الاقتصادي ككل، ومنها سعر صرف العملات.
كما أن التغييرات السريعة من شأنها أن تتسبب في حالة من الفوضى ومن ثم الإضرار بالاقتصاد، وهو أمر لا يحدث عادة إلا في أثناء الأزمات الحادة التي تضرب الاقتصاد، كما حدث خلال الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008.
ومن هنا قد لا نلمس التأثير الفعلي لتغيير السياسة النقدية على الاقتصاد إلا بعد مدة قد تصل إلى عامين. حيث يستغرق المستهلكون والشركات وقتًا كبيرًا للتفاعل مع زيادة أسعار الفائدة.
الخلاصة
- ناقشنا في هذا المقال موضوع أثر السياسة النقدية على سعر الصرف. وخلصنا إلى أن العملة، شأنها شأن أية سلعة، تحددها قوانين العرض والطلب في أسواق الصرف.
- ومن هنا تتمثل أهمية البنوك المركزية وحنكتها في إدارة أدواتها المالية للتأثير على أسعار صرف العملات، وهو ما يسمى بالسياسة النقدية.
- ويتمثل الهدف الرئيسي للسياسة النقدية للبنوك المركزية في ضمان استقرار أسواق الصرف، وتحقيق التوازن بين معدلات التضخم ومعدلات النمو الاقتصادي من خلال نوعين رئيسيين من السياسات.
- أنواع السياسة النقدية:
- سياسة نقدية توسعية: وهي تهدف إلى زيادة النمو والنشاط الاقتصادي من خلال خفض أسعار الفائدة وزيادة المعروض النقدي. ومن ثم تشجيع الاستثمار والإنفاق على السلع والخدمات.
- غير أن هذه السياسة التوسعية يكون لها تأثير سلبي في الغالب على سعر صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأخرى، مع انخفاض القيمة الشرائية للعملة وانخفاض الطلب عليها.
- سياسة نقدية انكماشية: وهي السياسة التي يلجأ إليها البنك المركزي في حالة ارتفاع معدلات التضخم بشكل كبير. ومن خلالها يلجأ البنك المركزي إلى تقليص المعروض النقدي من خلال زيادة أسعار الفائدة. ومن ثم الحد من قدرة الكيانات التجارية والأسر على الاقتراض.
- ومن هنا تصبح الأصول المالية أكثر جاذبية للمستثمرين ويرتفع الطلب عليها، ونتيجة لذلك فإن سعر صرف العملة سيرتفع في الأسواق.
- سياسة نقدية توسعية: وهي تهدف إلى زيادة النمو والنشاط الاقتصادي من خلال خفض أسعار الفائدة وزيادة المعروض النقدي. ومن ثم تشجيع الاستثمار والإنفاق على السلع والخدمات.
- أثر السياسة النقدية على سعر الصرف
- قد تؤدي السياسة النقدية التوسعية إلى خفض سعر صرف العملة المحلية.
- بينما قد تؤدي السياسة النقدية الانكماشية إلى رفع سعر صرف العملة المحلية.
- وتتخذ البنوك المركزية قراراتها بشأن السياسات النقدية الأنسب لتحديد أهدافها وفقًا لعدد من المؤشرات مثل: معدلات النمو والبطالة والتضخم. وفي الغالب تحدد البنوك المركزية، خاصة في الدول المتقدمة، مستويات آمنة لهذه المؤشرات.
- ونظرًا لأن الهدف الرئيسي للسياسات النقدية التي تنتهجها البنوك المركزية يتمثل في ضمان وضع اقتصادي مستقر للبلاد وليس إحداث حالة من الفوضى، فإنها غالبًا ما تعدل سياستها بشكل تدريجي في فترة زمنية قد تستغرق شهورًا وربما عدة أعوام.
للمزيد من المقالات ذات الصلة، يرجى متابعة موقع بورصات.