انتعشت الآمال بقوة في تعافي الاقتصاد الأوروبي، واستعادة الشعور بعودة الحياة الطبيعية بعد مرور عامين مروعين من تفشي وباء كوفيد – 19، وكان ذلك مدعومًا بالإنفاق الحكومي الغزير، والعزم على مساعدة الأسر المُنهكة. غير أن كل هذه الآمال تبددت في 24 فبراير / شباط، مع الغزو الروسي لأوكرانيا. حيث تلاشى الشعور بالحياة الطبيعية من جديد، وبدا أن الاقتصاد الأوروبي في طريقه إلى نفق مظلم.

الآن، أصبح من شبه المؤكد حدوث ركود اقتصادي، واقتربت معدلات التضخم من رقمين في معظم دول منطقة اليورو. ومع اقتراب فصل الشتاء ونقص امدادات الطاقة، بدت ملامح أزمة كبيرة تلوح في الأفق.

ورغم أن التوقعات الحالية سيئة بالفعل، إلا أنه من المرجح أن تزداد هذه التوقعات سوءًا قبل أي تحسن قد يطرأ بحلول العام القادم 2023.

يقول ألكسندر بومبارد، الرئيس التنفيذي لمتاجر التجزئة كارفور: “الأزمة هي الوضع الطبيعي الجديد في أوروبا”. وقال موجهًا حديثه للمستثمرين: “ما اعتدنا عليه في العقود الماضية –من انخفاض في معدلات التضخم، وانتعاش التجارة الدولية- قد انتهى”!.

لقد كان التحول دراماتيكيًا، فقبل عام من الآن، كانت توقعات النمو الاقتصادي لمنطقة اليورو تحوم حول معدلات 5 بالمئة. بينما اليوم أصبح الركود على مرمى البصر.

التضخم يضرب أوروبا

تعاني الأسر والشركات -على حد سواء- من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، في الوقت الذي ارتفعت فيه أسعار الغذاء والطاقة بشكل غير مسبوق. وتفاقمت الأزمة مع موجة الجفاف المدمرة التي ضربت أوروبا وأدت إلى انخفاض منسوبات الأنهار، ما فرض قيودًا كبيرة على حركة التجارة النقل.

بلغ التضخم في منطقة اليورو مستويات لم تشهدها منذ نصف قرن، عند 9 بالمئة تقريبًا، الأمر الذي أضعف القوة الشرائية بقوة، مع استخدام السيولة الفائضة في شراء البنزين والغاز الطبيعي والمواد الغذائية الأساسية.

فيما بدأت مبيعات التجزئة في الانخفاض بشدة قبل أسابيع قليلة من بدء موسم التدفئة في أوروبا. اعتاد المستهلكون الآن على تقليل مشترياتهم من السلع غير الأساسية قدر المستطاع. لذلك، ففي يونيو / حزيران، انخفضت أحجام مبيعات التجزئة بنسبة 4% تقريبًا عن العام السابق، متأثرة بانخفاض بنسبة 9% في ألمانيا. وقد بدأ المستهلكون في اللجوء إلى سلاسل الخصومات والتخلي عن المنتجات الراقية، والتحول إلى العلامات التجارية الأقل جودة، وبدأوا أيضًا التخلي عن بعض المشتريات.

يقول روبرت جينتز، الرئيس التنفيذي لمتاجر التجزئة الألمانية زالاندو، للصحفيين: “الحياة أصبحت أكثر تكلفة، وبدا من المعتاد أن يتردد المستهلكون في طلب كثير من السلع الاستهلاكية”.

في غضون ذلك، تم إغلاق الكثير من مصانع إنتاج الأسمدة، الذي تعتمد أساسًا على الغاز الطبيعي، بسبب نقص إمدادات الغاز. بالإضافة إلى خروج نحو نصف القوة المتخصصة في صهر الألومنيوم والزنك في أوروبا من الخدمة لذات السبب.

وحتى السياحة، والتي ربما كانت النقطة المضيئة الوحيدة، تضررت بشكل غير متوقع من الأحداث الأخيرة. وبينما كان الأفراد والأسر يتطلعون إلى إنفاق بعض المدخرات والاستمتاع بأول صيف خالٍ من الإجراءات الاحترازية منذ عام 2019، إلا أنهم واجهوا أزمات لم تكن في الحسبان.

على صعيد متصل، يعاني قطاع السفر من نقص في القدرات التشغيلية والعمالة، خاصة مع تردد العمال، الذين تم تسريحهم خلال تفشي الوباء، في العودة من جديد. واضطرت المطارات الرئيسية، مثل فرانكفورت وهيثرو، إلى تقليص الرحلات الجوية بسبب افتقارها إلى الموظفين اللازمين. وفي مطار شيفول بأمستردام، قد تمتد فترات الانتظار إلى أربع أو خمس ساعات.

والأمر نفسه مع شركات الطيران، والتي لم تتمكن من التعامل مع هذه الأزمة، إذ اضطرت شركة لوفتهانزا الألمانية إلى نشر اعتذار علني لعملائها عن الفوضى العارمة في التنظيم، معترفة أنه من غير المرجح أن تنتهي هذه الأزمة في وقت قريب.

ملامح الركود

من المرجح أن تتفاقم هذه الأزمات، خاصة إذا استمرت روسيا في تخفيض إمدادات الغاز، وهو الأمر الذي أصبح معتادًا الآن. تقول كارولين باين، من كابيتال إيكونوميكس: “صدمة الغاز اليوم أكبر بكثير مما نتصور، إنها تقريبا ضعف الصدمة التي عانت منها أوروبا في سبعينيات القرن الماضي بسبب النفط”. وتُعلق: “لقد شهدنا زيادة بواقع من 10 إلى 11 ضعفًا في السعر الفوري للغاز الطبيعي في أوروبا خلال العامين الماضيين”.

وفي حين كشف الاتحاد الأوروبي عن بعض الخطط لتسريع الانتقال إلى الطاقة المتجددة والتخلي تمامًا عن الغاز الروسي بحلول عام 2027، مما يجعل الأمور أكثر مرونة على المدى الطويل، فإن نقص الإمدادات قد يُجبر الدول الأوروبية على السعي لخفض استهلاك الغاز بنسبة 15% على الأقل هذا العام.

وبالتالي، فإن الاستقلال عن روسيا في مجال الطاقة ستكون له تكلفة باهظة. بالنسبة للناس العاديين، سيعني ذلك القبول بالعيش في منازل ومكاتب أكثر برودة. ألمانيا، على سبيل المثال، والتي اعتادت في السابق على تدفئة الأماكن العامة عند 22 درجة مئوية، ستكون مجبرة على عدم تخطي 19 درجة مئوية.

علاوة على ذلك، سيعني ذلك ارتفاع تكاليف الطاقة، وبالتالي ارتفاع معدلات التضخم، حيث سيتعين على الدول التخلي عن أكبر وأرخص إمدادات الطاقة المتدفقة إليها من روسيا. وبالنسبة للشركات، سيعني ذلك انخفاض الإنتاج، الأمر الذي يؤثر على النمو، لا سيما في مجال الصناعة.

ارتفعت أسعار الغاز في ألمانيا، أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، بمقدار خمسة أضعاف في عام واحد. ومع ذلك، فإن المستهلكين لم يشعروا بهذه الموجة من الغلاء بشكل حقيقي حتى الآن، بفضل العقود طويلة الأجل التي تحميهم من تغيرات الأسعار. وبالتالي سيتضاعف الشعور بهذا الغلاء بمرور الوقت. وفضلًا عن ذلك، سيتعين على الألمان دفع ضريبة تفرضها الحكومة، وبمجرد تجديد العقود، سترتفع الأسعار، مما يشير إلى أن التأثير قادم لا محالة وإن تأخر لبعض الوقت، مما يضع ضغطًا تصاعديًا مستمرًا على المستهلك، ويعزز التضخم.

هذا هو السبب في أن العديد من الاقتصاديين، إن لم يكن معظمهم، يرون أن ألمانيا وإيطاليا، الاقتصادان الأول والرابع في أوروبا على الترتيب، واللذان يعتمدان أساسًا على الغاز، قد يدخلا قريبًا في ركود اقتصادي.

الجانب الإيجابي

بينما من المحتمل أيضًا حدوث ركود في الولايات المتحدة، إلا أن مصدره وأسبابه ستكون مختلفة تمامًا.

وفي ظل نضاله مع سوق العمل وارتفاع معدلات البطالة والنمو السريع للأجور، قام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي برفع أسعار الفائدة عدة مرات، موضحًا أنه على استعداد للمخاطرة، حتى بالدخول في ركود اقتصادي، للسيطرة على نمو الأسعار.

على النقيض من ذلك، رفع البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة مرة واحدة فقط، مع وعود بأنه سوف يتحرك بحذر في هذا الشأن، مدركًا أن رفع تكلفة الاقراض لدول منطقة اليورو المثقلة بالديون، مثل إيطاليا وإسبانيا واليونان، يمكن أن يغذي المخاوف بشأن قدرتها على مواصلة سداد ديونها.
ما يدعو للتفاؤل هنا أن أوروبا ستدخل في ركود مع بعض نقاط القوة.

لقد سجلت معدلات التوظيف ارتفاعاً قياسياً، ولا زالت الشركات تعاني من ندرة العمالة المتزايدة منذ سنوات. ويُشير ذلك في المجمل إلى أن الشركات ستكون حريصة على التمسك بالعاملين، خاصة أنها تتجه نحو تقليص أعمالها مع تحقيق هوامش ربح جيدة نسبيًا.

قد يؤدي ذلك إلى تعزيز القوة الشرائية، مع انخفاض قياسي في معدلات البطالة.

وفي هذا الإطار، قالت إيزابيل شنابل، عضو مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي، في تصريح لرويترز: “إن ما نراه من استمرار للنقص الحاد في العمالة، والبطالة المنخفضة تاريخيًا، والعدد الكبير من الوظائف الشاغرة، ربما يعني أنه حتى لو دخلنا في فترة ركود، فقد تكون الشركات مترددة في تسريح العمال على نطاق واسع”.

الآن، يتعين على أوروبا أن تتعامل مع الأزمة، وأن تُعيد التفكير في أمور كثيرة، من أهمها علاقاتها مع روسيا، التي تستحوذ على حصة تبلغ 40% من الغاز، و27% من النفط المتدفق إلى أوروبا. ومن المفارقات الغريبة، مع ذلك، أن دول أوروبا تعمل جاهدة الآن للتوصل إلى صيغة اتفاق تتضمن حزمة جديدة من العقوبات على روسيا!.