تشكل النظرية الكينزية جزءًا مهمًا من التاريخ الاقتصادي الحديث، وتزايدت أهميتها مؤخرًا مع تعاقب الأزمات الاقتصادية التي تضرب العالم. وعلى مر العصور، يسعى علماء الاقتصاد إلى محاولة فهم أسباب الأزمات الاقتصادية وسبل الخروج منها؛ ومن ثم الوصول إلى اقتصاد قوي ومستقر.

ولهذا السبب، فإنهم يحاولون صياغة نظريات من شأنها تفسير الظواهر الاقتصادية والتنبؤ بالنتائج. كما أن هذه النظريات تحدد أدوار الجهات المختلفة، وعلى رأسها الحكومات، في دعم الاقتصاد ودفعه نحو النمو. وفي الغالب تمثل نظريات الاقتصاد انقلابًا على الفكر السائد.

على سبيل المثال، عند دراسة تاريخ الاقتصاد الكينزي، نجد أن النظرية الكينزية عارضت النظرية الاقتصادية الكلاسيكية، خاصة فيما يتعلق بفكرة السوق الحرة القائمة على السماح لقوانين العرض والطلب بالتنظيم الذاتي لدورة الأعمال، وتؤكد أن دور القطاع الخاص يكون أحيانًا غير كاف في دعم الناتج الاقتصادي الكلي.

ومن ثم فإن النظرية الكينزية ترى أهمية تدخل الحكومات في الشأن الاقتصادي، سواءً بتعزيز النمو خلال فترات الازدهار الاقتصادي، أم بدعم الاقتصاد خلال فترات الركود الاقتصادي.

في هذا المقال سوف نتعرف على تاريخ الاقتصاد الكينزي ورؤية النظرية الكينزية لدعم الاقتصاد. وسنتعرف أيضًا على جون ماينارد كينز مؤسس هذه النظرية وأبرز أعماله. وبعد ذلك سنستعرض تاريخ الاقتصاد الكينزي وتطوره وكيف تم تطويعه من قبل الساسة وصناع القرار لانتشال اقتصاد بلادهم من أزماته. كذلك، سنعرض لبعض الأمثلة على تطبيق النظرية الكينزية خلال الأزمات الاقتصادية. مع عرض لأبرز أوجه النقد الموجهة لنظرية كينز.

أولًا: ما هي النظرية الكينزية | نظرية الاقتصاد الكينزي؟

نظرية الاقتصاد الكينزي Keynesian Economic Theory: هي نظرية اقتصادية وضع مبادئها عالم الاقتصاد البريطاني جون ماينارد كينز. وفيها أكد على أن الناتج الاقتصادي يتأثر على المدى القصير بشكل كبير بالطلب الكلي Aggregate Demand خاصة في أوقات الركود الاقتصادي.

ومن ثم تدعو هذه النظرية الحكومات إلى انتهاج سياسة مالية توسعية لدعم الطلب خلال فترات الأزمات الاقتصادية. كما تؤكد النظرية على أهمية الدور الحكومي في تحفيز الطلب ومكافحة البطالة من خلال زيادة الإنفاق على البنية التحتية وإعانات البطالة والتعليم وخفض الضرائب.

بالإضافة إلى ذلك، تؤكد النظرية الكينزية أيضًا على أهمية تعزيز إنفاق المستهلكين من أحل تحقيق استقرار الطلب الكلي ودعم الاقتصاد.

كما تؤكد النظرية الكينزية على ضرورة اتخاذ إجراءات حكومية عاجلة لتعزيز الطلب وتحفيز الاقتصاد كاستراتيجية لإدارة الأزمات. وعلى الرغم من قبول هذه الفكرة في عصرنا الحالي، فإنها كانت حينذاك (قبل نحو مائة عام) تمثل “بدعة”، أو وجهة نظر مخالفة إلى حد كبير للفكر الاقتصادي السائد.

اعتقد كينز أن سياسة عدم التدخل الحكومي خاطئة وتشكل خطرًا كبيرًا لأنها ستؤدي إلى خسارة الإنتاج الاقتصادي واستمرار معاناة ملايين المواطنين. كما جادل بأن الحكومات يمكنها، بل ويجب عليها، الاقتراض لتمويل الإنفاق من أجل توظيف ملايين العاطلين عن العمل. ولذلك، كانت أفكاره تمثل “ثورة” في الفكر الاقتصادي في ذلك الوقت.

علاوة على ذلك، تقترح النظرية الكينزية أن العامل الأساسي الذي يُحرك النشاط الاقتصادي هو الطلب على السلع والخدمات. ومن أجل تحفيز الطلب، يجب أن تركز سياسات الحكومة على التدخل المباشر كوسيلة للتأثير على الطلب ومنع الركود.

كذلك، تفترض النظرية الكينزية بأن الاقتصاد يمر بدورات متعاقبة، بين دورات ازدهار ودورات ركود أو كساد. وفي كلتا الحالتين يكون للحكومات دور فاعل ورئيسي، سواء في تعزيز النمو الاقتصادي (خلال دورات الازدهار)، أم في دعم الاقتصاد (خلال دورات الركود).

الشكل التالي يلخص المبادئ الأساسية للنظرية الكينزية:

نظرية الاقتصاد الكينزي (النظرية الكينزية)

الشكل رقم (1): نظرية الاقتصاد الكينزي (النظرية الكينزية)

ثانيًا: أوجه التدخل الحكومي في الاقتصاد طبقًا للنظرية الكينزية

طبقًا لنظرية الاقتصاد الكينزي، هناك ثلاثة أوجه رئيسية للتدخل الحكومي في الشأن الاقتصادي. وبمعنى أدق، هناك ثلاثة مقاييس أو مؤشرات يجب على الحكومات مراقبتها عن كثب في أثناء الدورات الاقتصادية المتعاقبة، سواء خلال فترات الازدهار الاقتصادي أم الركود. وهذه المقاييس هي:

1- أسعار الفائدة Interest Rates

تلعب أسعار الفائدة –تكلفة اقتراض الأموال- دورًا محوريًّا في تمكين النمو الاقتصادي. ولذلك أولتها النظرية الكينزية أهمية كبيرة.

(أ) خلال فترات الازدهار الاقتصادي: تؤكد النظرية الكينزية أنه يجب على البنوك المركزية التدخل لرفع أسعار الفائدة خلال دورات الازدهار الاقتصادي؛ بهدف تحصيل أكبر كم من الدخل من المقترضين.

وتزعم النظرية الكينزية أن الاستثمار المفرط في القطاعين العام والخاص يمكن أن يؤدي إلى انخفاض في المعروض النقدي، ما قد ينتج عنه ركود حاد. كما تحث النظرية الكينزية البنوك المركزية والتجارية على تكديس الاحتياطيات النقدية الناتجة عن ارتفاع أسعار الفائدة، وذلك تحسبًا واستعدادًا لحدوث ركود في المستقبل.

(ب) خلال فترات الركود الاقتصادي: تحث النظرية الكينزية الحكومات على خفض أسعار الفائدة في محاولة لتشجيع الاقتراض. وبالتالي، فإن الاستثمارات في القطاع الخاص ستساعد على تعزيز الإنتاج وإخراج الاقتصاد من الركود.

وعلى عكس دورات الازدهار الاقتصادي، يجب على البنوك أن تفعل كل ما بوسعها في أثناء دورة الكساد من أجل ضمان تعافي الاقتصاد خلال إطار زمني معقول.

2- معدلات الضرائب Tax Rates

تعتبر ضرائب الدخل من المصادر الرئيسية للدخل الحكومي، وتُستخدم في تمويل مبادرات القطاع العام، مثل البنى التحتية والرعاية الصحية والبرامج الاجتماعية، وما إلى ذلك.

(أ) خلال فترات الازدهار الاقتصادي: تحث النظرية الكينزية الحكومات على ضرورة التدخل ورفع معدلات ضريبة الدخل، وذلك بهدف زيادة إسهامها في تعزيز نمو النشاط الاقتصادي.

كما تؤكد النظرية أن مثل هذه الأوقات (الازدهار الاقتصادي) مثالية أيضًا لإطلاق مبادرات عامة جديدة، مثل إعادة رسم خريطة النظام الضريبي، أو إصلاح نظام الرعاية الصحية، لأنها تُقلل من مخاطر فشلها.

وبالإضافة إلى ذلك، وللمساعدة في استكمال المبادرات، يمكن للحكومات فرض ضرائب جديدة لم تكن موجودة من قبل من أجل توليد المزيد من الدخل من ارتفاع الأجور. وفي الوقت نفسه، يمكن للحكومات أيضًا تقديم تخفيضات ضريبية أصغر نسبيًّا من أجل تحفيز الإنفاق الاستهلاكي Consumer Spending.

(ب) خلال فترات الركود الاقتصادي: تدعو النظرية الكينزية الحكومات إلى تخفيض معدلات ضريبة الدخل على الأفراد والشركات. وبالتالي، سيكون لدى القطاع الخاص رأس مال إضافي للاستثمار في المشاريع ودفع الاقتصاد إلى الأمام.

الهدف من ذلك هنا هو أن الاحتياطيات النقدية المتولدة خلال فترات الازدهار الاقتصادي ستساعد في التخفيف من الآثار السلبية الناجمة عن انخفاض عائدات الحكومة.

3- البرامج الاجتماعية Social Programs

(أ) خلال فترات الازدهار الاقتصادي: تؤكد النظرية الاقتصادية الكينزية أنه يجب على الحكومات أن تُخفض الإنفاق على البرامج الاجتماعية، والتي لن تكون مطلوبة خلال دورات الازدهار. تهدف بعض البرامج الاجتماعية في الأساس إلى تدريب الأفراد على المهارات من أجل تحفيز سوق العمل بتدفق العمالة الماهرة.

علاوة على ذلك، فخلال فترات الازدهار الاقتصادي، يُفترض أن الاقتصاد يمتلك قوة عاملة جيدة ومدربة وماهرة. وبالتالي، ليست هناك حاجة بالضرورة إلى استثمارات إضافية.

(ب) خلال فترات الركود الاقتصادي: تقول النظرية الكينزية إنه ينبغي للحكومات زيادة الإنفاق على البرامج الاجتماعية من أجل تحفيز سوق العمل وتوفير العمالة الماهرة.

الفكرة من وراء ذلك هي أن زيادة المعروض من العمالة الماهرة من شأنها أن تؤدي إلى انخفاض الأجور، ومن ثم إتاحة الفرص للشركات لتوظيف المزيد من الموظفين المُدربين والمنتجين دون زيادات كبيرة في التكلفة.

وبهذه الطريقة، سيكون الاقتصاد قادرًا على الخروج تدريجيًّا من الركود من خلال قوة عاملة قوية وماهرة ومدربة.

الجدول أدناه يُلخص مبادئ نظرية الاقتصاد الكينزي:

وجه المقارنة

أسعار الفائدة

معدلات الضرائب

البرامج الاجتماعية

دورات الازدهار الاقتصادي

زيادة

زيادة

خفض
دورات الركود الاقتصادي

خفض

تخفيض

زيادة

جدول رقم (1): أوجه التدخل الحكومي في الشأن الاقتصادي طبقًا للنظرية الكينزية.

ثالثًا: من هو جون ماينارد كينز مؤسس الاقتصاد الكينزي؟

يعد عالم الاقتصاد البريطاني جون ماينارد كينز John Maynard Keynes (1883 – 1946) أحد أكثر الاقتصاديين تأثيرًا خلال القرن العشرين. كما أنه يعتبر المؤسس الفعلي لعلم الاقتصاد المعاصر، حيث اعتمدت التطورات اللاحقة في علم الاقتصاد على النظريات الكينزية.

وقد ولد كينز في كامبريدج في الخامس من يونيو عام 1883، ودرس الرياضيات في جامعة كامبريدج. كما عمل كينز في بداية حياته في الهند، وهناك ألَّف بعض أعماله، ومن ضمنها كتاب عن الإصلاح في الهند.

عالم الاقتصاد البريطاني جون ماينارد كينز John Maynard Keynes (1883 – 1946)

الشكل رقم (2): عالم الاقتصاد البريطاني جون ماينارد كينز John Maynard Keynes (1883 – 1946)

وعقب نهاية الحرب العالمية الأولى، شارك كينز في مؤتمر الصلح في فرساي Treaty of Versailles في يونيو 1919 ممثلًا عن وزارة الخزانة -المالية– البريطانية.

ويُعرف عنه وقوفه بقوة ضد الشروط والتعويضات القاسية التي فُرضَت على ألمانيا المهزومة، حيث انتقد كينز هذه الشروط في كتابه “النتائج الاقتصادية للسلام” The Economic Consequences of the Peace. وفيه أكد أن هذه الشروط المُجحفة من شأنها أن تُعزز الرغبة في الانتقام لدى الألمان.

وفي عام 1936، نشر كينز كتابه الأكثر شهرة “النظرية العامة للتوظيف والفائدة والمال” The General Theory of Employment, Interest and Money، والذي أصبح معيارًا للفكر الاقتصادي العالمي على مدى العقود التالية.

وفي أكثر من موضع من هذا الكتاب، يُعيد كينز ويؤكد على ضرورة اتخاذ الحكومات إجراءات عاجلة لتعزيز الطلب وتحفيز الاقتصاد واعتبارها استراتيجية لإدارة الأزمات.

وقد لعب كينز دورًا بارزًا أيضًا خلال الحرب العالمية الثانية، إذ شارك في المفاوضات الهادفة لتشكيل النظام الاقتصادي العالمي الجديد.

وفي عام 1944، وعقب نهاية الحرب العالمية الثانية، قاد كينز الوفد البريطاني خلال مؤتمر بريتون وودز Bretton Woods، الذي عقد في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث اضطلع بدور حيوي في التخطيط لإنشاء كل من البنك الدولي World Bank، وصندوق النقد الدولي International Monetary Fund.

وقد توفي كينز في الحادي والعشرين من أبريل من عام 1946.

رابعًا: تاريخ الاقتصاد الكينزي وتطور النظرية الكينزية

لم يشهد التاريخ الاقتصادي العالمي الحديث كارثة أسوأ من أزمة الكساد العظيم Great Depression في ثلاثينيات القرن العشرين، والتي ألقت بظلالها على الاقتصاد العالمي برمته لعقود تالية.

وخلال هذه الأزمة انهارت أسعار الأسهم، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنحو 15%، وانخفض حجم التجارة الدولية بنحو 50%، وبلغ معدل البطالة في الولايات المتحدة حوالي 24%، ووصل إلى 33% في دول أخرى.

علاوة على ذلك، لم تنجح النظرية الاقتصادية الكلاسيكية السائدة (التي ركزت على النمو الاقتصادي والحرية القائمة على المنافسة في جانب العرض في السوق ونهج عدم التدخل الحكومي) في إيجاد أي مخرج من هذه الأزمة المدمرة.

في غضون ذلك، وفي عام 1936، نشر كينز كتابه “النظرية العامة للتوظيف والفائدة والمال”. وفيه أكد على أن فكرة ميل الأسواق نحو التوظيف الكامل خاطئة، وأن التدخل الحكومي ضروري للتغلب على مشكلات البطالة والركود. كما رأى كينز أن الطلب هو مفتاح التوظيف الكامل، وهو (أي الطلب) يمثل القوة الحقيقية التي تخلق العرض.

النظرية الكينزية وإنقاذ الاقتصاد الأمريكي

في الفترة من عام 1933 إلى عام 1939، تبنى الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت Franklin Roosevelt (1945 – 1933) نظريات كينز الاقتصادية. وقد نتج عن ذلك بداية ما يُسمى بـ”صفقة روزفلت الجديدة” (التي سنتحدث عنها لاحقًا).

لقد اعتزم الرئيس الأمريكي آنذاك تنشيط الاقتصاد من خلال تحفيز طلب المستهلكين. وبالفعل، تم تحقيق ذلك من خلال الإنفاق بالعجز Deficit Spending (الإنفاق الحكومي بما يفوق الإيرادات، أي الإنفاق عن طريق الاقتراض بدلًا من الضرائب)، وهو النمط الكينزي الذي من خلاله يمكن تعزيز النمو الاقتصادي.

وقد نجحت هذه النظرية الكينزية فيما فشلت فيه النظرية الكلاسيكية، وبفضلها –مع عوامل أخرى- تمكن روزفلت من إخراج الاقتصاد تدريجيًّا من هذه الكبوة.

وبناءً على ذلك يمكن القول إن تاريخ الاقتصاد الكينزي يبدأ مع أزمة الكساد العظيم. كما أن نظرية وسياسات الاقتصاد الكينزي هيمنت في الفترة مما بعد الحرب العالمية الثانية إلى منتصف السبعينيات من القرن العشرين.

وخلال هذه الفترة، بدأت العديد من الاقتصادات المتقدمة تعاني من تضخم وبطء في النمو الاقتصادي في الوقت نفسه، أو ما يسمى بالركود التضخمي Stagflation. ومن هنا بدأت هذه الدول في السعي لإيجاد حلول تساعدها في تجنب الآثار الناجمة عن هذه الأزمات، ومن ثم برزت النظرية الكينزية كأحد أبرز هذه الحلول.

خامسًا: أمثلة على تطبيقات النظرية الكينزية خلال الأزمات الاقتصادية

كما سبقت الإشارة، كانت أزمة الكساد الكبير تمثل بداية تاريخ الاقتصاد الكينزي (النظرية الكينزية). ومنذ ذلك الحين، مثلت مبادئ كينز الاقتصادية أحد أهم الحلول بالنسبة للساسة والاقتصاديين للخروج من الأزمات الاقتصادية المختلفة.

ليس هذا فحسب، بل إن هناك من القادة والسياسيين من طبق مبادئها خلال فترات التوسع الاقتصادي. فيما يلي بعض الأمثلة على تطبيق مبادئ النظرية الكينزية على الاقتصاد الأمريكي خلال حقب زمنية مختلفة:

(1) صفقة روزفلت الجديدة New Deal Program

كانت آثار أزمة الكساد العظيم مدمرة بالنسبة للاقتصاد الأمريكي. وفي محاولة لإخراج الاقتصاد من كبوته، تبنى الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت مبادئ النظرية الكينزية خلال المائة يوم الأولى من ولايته، حيث أعلن حينها عن سلسلة من البرامج والمشروعات عُرفت باسم “الصفقة الجديدة”.

وقد تضمنت هذه السلسلة تمويل الأشغال العامة، والإنفاق على برامج التوظيف، وسن قوانين للضمان الاجتماعي. كما عمدت إدارة روزفلت إلى تعزيز دور الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في تحفيز النمو الاقتصادي.

وقد ساهمت سياسة روزفلت بزيادة الإنفاق العسكري وقت الحرب في إنهاء الكساد، الأمر الذي كان له تأثير مباشر على تعافي الاقتصاد الأمريكي.

الشكل التالي يوضح المحاور الاساسية التي قامت عليها “صفقة روزفلت الجديدة”:

برامج صفقة روزفلت الجديدة

الشكل رقم (3): برامج صفقة روزفلت الجديدة

(2) إجراءات رونالد ريجان (ريجانوميكس) Reaganomics

عندما تولى الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان Ronald Reagan (1989 – 1981)، كانت الولايات المتحدة تعاني من “ركود تضخمي”، حيث ارتفعت معدلات البطالة والتضخم بشكل غير مسبوق.

ولذلك، أقر ريجان مجموعة من الإجراءات، من بينها خفض الإنفاق الحكومي وخفض الضرائب. وقد أطلق على هذه السياسات الجمهورية التقليدية اسم “ريجانوميكس”.

وبموجبها تم تخفيض ضرائب الدخل ومعدل الضرائب المفروضة على الشركات. وبدلًا من خفض الدين، ضاعف ريغان هذا الدين أكثر من الضعف، وهو الأمر الذي ساعد فعليًّا في إنهاء ركود عام 1981.

(3) استراتيجية كلينتون الاقتصادية Clinton’s Economic Strategy

في عام 1993، عندما تولى الرئيس بيل كلينتون Bill Clinton (1993 – 2001)، كان هناك نحو 10 ملايين أمريكي عاطلين عن العمل. كما واجهت البلاد عجزًا قياسيًّا، وكانت قوائم الفقر والرعاية الاجتماعية تتزايد. كذلك، تسبب التضخم في تراجع دخول الأسر، وسجلت فرص العمل أبطأ معدل منذ الكساد الكبير.

لذلك، أطلق كلينتون استراتيجيته الاقتصادية القائمة على تبني سياسة اقتصادية توسعية Expansionary Economic Policy. وقد بُنيت أيضًا على ثلاثة محاور:

  • ترسيخ الانضباط المالي، والقضاء على عجز الموازنة، وإبقاء أسعار الفائدة منخفضة، وتحفيز استثمارات القطاع الخاص.
  • كذلك الاستثمار في القوى العاملة، من خلال التعليم والتدريب والعلوم والبحث.
  • فتح الأسواق الخارجية حتى يتمكن العمال الأمريكيون من المنافسة في الخارج.

وبذلك آتت هذه السياسات ثمارها قُبيل نهاية حقبة كلينتون، إذ تحول العجز القياسي في الموازنة إلى فائض قياسي. كما تم إضافة نحو 22 مليون وظيفة جديدة (هبطت معدلات البطالة من 7.5% إلى 4%).

كما هبطت معدلات الفقر إلى ما دون 12%. وأصبحت البطالة والتضخم الأساسي في أدنى مستوياتهما منذ أكثر من 30 عامًا. وإجمالًا، شهدت الولايات المتحدة في خضم ذلك أطول فترة توسع اقتصادي في تاريخها.

الشكل أدناه يوضح حجم العجز والفائض في الميزانية الفيدرالية الأمريكية في الفترة 1990 – 2006:

العجز الفائض الفيدرالي الأمريكي في عهد بيل كلينتون (بالمليار دولار)

الشكل رقم (4): العجز/ الفائض الفيدرالي الأمريكي في عهد بيل كلينتون (بالمليار دولار)

(4) جورج دبليو بوش وقوانين التحفيز والتوظيف

على الرغم من أن النظرية الكينزية دعت في الأساس إلى زيادة الإنفاق الحكومي خلال فترات الكساد، إلا أنه هناك من السياسيين وأصحاب القرار الاقتصادي من لجأ إلى تطبيق النظرية خلال الفترات التوسعية.

وخير مثال على ذلك الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش George W. Bush (2009– 2001). والذي لجأ إلى سياسة تحفيزية خلال فترة حكمه. ففي عام 2001 سن بوش قانون التوفيق بين النمو الاقتصادي والإعفاء الضريبي Economic Growth and Tax Relief Reconciliation Act (EGTRRA).

وكان الهدف منه تحفيز الإنفاق الاستهلاكي. وتبعه عام 2003 بسن قانون التوفيق بين الإعفاء الضريبي للوظائف والنمو Jobs and Growth Tax Relief Reconciliation Act (JGTRRA) لتشجيع التوظيف.

غير أن هذه السياسات (بالإضافة إلى الأحداث الأخرى التي وقعت خلال حقبة بوش الابن، مثل: هجمات 11 سبتمبر، والحروب على أفغانستان والعراق، وإعصار كاترينا، وغيرها)، تسببت في زيادة حجم الدين العام الأمريكي.

كما كانت أحد الأسباب الرئيسية في تفجر الأزمة المالية العالمية عام 2008، وهو ما لفت نظر علماء الاقتصاد إلى ضرورة إدخال بعض التعديلات على النظرية الكينزية.

(5) سياسات أوباما في مواجهة الأزمة المالية العالمية (2008)

تزامنت بداية ولاية الرئيس الأمريكي باراك أوباما مع تفجر أزمة الائتمان العالمية. ومن هنا كان لزامًا على الرئيس الأمريكي أن يسخر كل السياسات الاقتصادية لمواجهة تلك الأزمة. ومن ثم مواصلة برامج التيسير الكمي Quantitivate Easing وتحفيز الاقتصاد.

ومرة أخرى تبرز النظرية الكينزية كأحد أهم الحلول لمواجهة تلك الأزمة. ولهذا السبب أطلق الرئيس أوباما برنامجه الاقتصادي المعروف باسم “أوبامانوميكس” Obamanomics، والذي يُشير إلى السياسات الضريبية وإصلاحات الرعاية الصحية وبرامج التحفيز الاقتصادي التي سَنَّتْها إدارة أوباما لمواجهة الركود الاقتصادي الكبير لعام 2008.

وبموجب هذا البرنامج، أصدر باراك أوباما في فبراير عام 2009 “قانون الانتعاش وإعادة الاستثمار الأمريكي” American Recovery and Reinvestment Act أو (ARRA).

وفيه أقر الكونجرس الأمريكي حزمة من الإجراءات لتحفيز الاقتصاد قدرت قيمتها بنحو 831 مليار دولار. وقد تم توجيه جزء من هذه الحزمة لإنقاذ صناعة السيارات الأمريكية التي كانت على وشك الانهيار. ومن ثم إنقاذ ثلاثة ملايين وظيفة.

ونجحت سياسات أوباما في خفض معدلات البطالة من قرابة 10% إلى نحو 5%. كما تحول الاقتصاد الأمريكي من انكماش بنحو 2.8% خلال عام 2009 إلى نمو بنسبة 2.6% بنهاية عام 2015.

كما يتفق خبراء الاقتصاد على أن قانون الانتعاش وإعادة الاستثمار الأمريكي يمثل تطبيقًا حقيقيًّا لنظرية الاقتصاد الكينزي، حيث تم تفسير الإنفاق الحكومي باعتباره وسيلة لتحفيز الطلب الكلي.

وقد ادعى مؤيدو “أوبامانوميكس” أن الإنفاق كان يهدف إلى الحفاظ على الوظائف التي كانت مهددة من جراء الأزمة المالية الجارية في ذلك الوقت. بل وإضافة وظائف جديدة. وكذلك إلى الاستثمار أيضًا في مجالات مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية المتهالكة.

سادسًا: بعض الانتقادات الموجهة إلى النظرية الكينزية

على مدار تاريخ الاقتصاد الكينزي، واجهت أفكار كينز ونظريته كثير من الانتقادات، بالرغم من نجاحها في كثير من الأزمات.

أحد أبرز أوجه الانتقاد يتمثل في تشكيك عدد من علماء الاقتصاد في قدرة الحكومات على تنظيم الدورة الاقتصادية عن طريق تطبيق السياسات الضريبية، وأصروا بدلًا من ذلك على حل المشكلة الاقتصادية باللجوء إلى السياسة النقدية.

والجدير بالذكر في هذا السياق أن العالم والخبير الاقتصادي الأمريكي الشهير ميلتون فريدمان Milton Friedman كان قد طوّر نظريته الاقتصادية اعتمادًا على الإطار العام للاقتصاد الكينزي.

غير أن فريدمان توصل إلى استنتاجات مختلفة بشأن السياسة الاقتصادية؛ حيث ركز على أهمية السياسة النقدية، وزيادة كفاءة السوق نفسه وحل المشكلات الخاصة بسوق العمل، وأوضح أن لتغير المعروض النقدي تأثيرات على المدى القريب والبعيد؛ تحديدًا على مستويات الأسعار.

وبشكل عام، تتلخص أبرز الانتقادات الموجهة إلى النظرية الكينزية في النقاط التالية:

  • أنها تدعم ضخ الأموال وزيادة الإنفاق الحكومي، وهو ما يتسبب بدوره في زيادة معدلات الاقتراض الحكومي. ومن ثم رفع أسعار الفائدة على السندات، وهو ما لا يمثل حافزًا أمام القطاع الخاص للاستثمار.
  • تقليل الموارد المتاحة أمام القطاع الخاص للاستثمار، حيث تقترض الحكومات في الغالب لتمويل استثمارات كبيرة يصعب على القطاع الخاص مزاحمته فيها.
  • كما يرى بعض الاقتصاديين أن السياسات المالية التوسعية قد تدفع أحيانًا باتجاه زيادة معدلات التضخم.
  • أخيرًا يرى بعض الاقتصاديين أن الناس ينظرون إلى خفض الضرائب المصاحب للإنفاق الحكومي باعتباره أمرًا مؤقتًا. وبالتالي يتوقفون عن الإنفاق تحسبًا لزيادة الضرائب مرة أخرى. وهو ما يعني عدم فاعلية السياسة التوسعية من وجهة نظرهم.

وبالرغم من ذلك، وكما سبق وأشرنا، فإن النظرية الكينزية عادت للأضواء مع تفجر أزمة الرهن العقاري –الأزمة المالية العالمية– في عام 2008 بسبب وجود أوجه تشابه كثيرة مع فترة الكساد خلال الثلاثينيات. وتمثل ذلك في انخفاض حاد في الناتج الإجمالي المحلي، واستمرار الركود لفترة طويلة.

سابعًا: هل تُساعد النظرية الكينزية في الحد من آثار تفشي وباء كورونا؟

من المؤكد أن العالم لم يشهد في تاريخه المعاصر أزمة أسوأ من تلك التي يشهدها حاليًّا مع انتشار وباء كورونا. وبالإضافة إلى الزيادة الكبيرة في أعداد المصابين، فإن هذه الأزمة كانت لها تداعياتها السلبية المدمرة على الاقتصاد.

ذلك كونها تسببت في انهيار أسواق الأسهم، وإغلاق المنشآت الاقتصادية، وتدمير السياحة، وأضرت بحركة التجارة والنقل العالمية. كما تسببت في خسارة أعداد كبيرة من الوظائف.

وهنا تجدر الإشارة إلى تدخل الحكومات لإنقاذ الوضع الاقتصادي المتدهور بسبب تفشي الوباء. خاصة فيما بتعلق بدعم قطاع الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي.

وفي الولايات المتحدة، أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في مارس عام 2020 عن خطة للطوارئ لمنع انتشار الجائحة وإنعاش الاقتصاد، حيث وقَّع أربعة قوانين هدفها تحفيز الاقتصاد من خلال توفير تمويل بقيمة قياسية تبلغ 2.5 تريليون دولار للوكالات والشركات التي تضررت من الأزمة.

بالإضافة إلى ذلك، في ديسمبر 2020، وقع ترامب قانون الإغاثة الاقتصادية Economic Relief Act، الذي يوفر المساعدة المالية للصناعات والشركات الصغيرة والأسر والعمال.

ونتيجة لذلك، ارتفع الدين القومي الأمريكي بنسبة 36% تقريبًا في أقل من أربع سنوات. إذ تجاوز في أكتوبر 2020 حاجز 27 تريليون دولار. ويُعزى تضاعف الدين أكثر من ثلاثة أضعاف في الأساس إلى انتشار فيروس كورونا وحزم التحفيز الاقتصادي الضرورية والتشريعات التي تلت ذلك.

ومع ذلك، من المبكر الحكم على مدى نجاح إجراءات ترامب للتحفيز الاقتصادي، خاصة في ظل تجدد تفشي الوباء من حين إلى آخر. وكذلك عدم قدرة النظام العالمي بأكمله على الحد من آثاره المدمرة.

أخيرا، قد تكون أزمة تفشي الوباء الحالية هي الوقت المناسب للتعلم من التاريخ الاقتصادي، وتحديدًا تاريخ الاقتصاد الكينزي. لقد وضع كينز -منذ ما يقرب من مائة عام- الأسس الفكرية لسياسة التدخل الحكومي في أوقات الأزمات الاقتصادية.

بالتالي، فإن التدخل الحكومي الكامل لتعزيز الطلب الكلي وفقًا لمبادئ النظرية الكينزية خلال أزمة كورونا سيكون له ما يبرره.

الخلاصة

  • تناولنا في هذا المقال تاريخ الاقتصاد الكينزي. وفيه عرضنا لنظرية الاقتصاد الكينزي، والتي تركز على تأثير الطلب على دعم الاقتصاد بشكل كلي على المدى القصير.
  • تدعو النظرية الكينزية الحكومات إلى انتهاج سياسة مالية توسعية لدعم الطلب خلال فترات الأزمات الاقتصادية.
  • كما تؤكد النظرية الكينزية على ضرورة اتخاذ إجراءات حكومية عاجلة لتعزيز الطلب وتحفيز الاقتصاد كاستراتيجية لإدارة الأزمات.
  • طبقًا لنظرية الاقتصاد الكينزي، هناك ثلاثة أوجه رئيسية للتدخل الحكومي في الشأن الاقتصادي، سواء خلال فترات الازدهار الاقتصادي أم الركود. وهي:
    • أسعار الفائدة.
    • معدلات الضرائب.
    • البرامج الاجتماعية.
  • يعود الفضل إلى عالم الاقتصاد البريطاني جون ماينرد كينز في إرساء مبادئ وأسس النظرية الكينزية في ثلاثينيات القرن العشرين.
  • في عام 1936، نشر كينز كتابه الأكثر شهرة “النظرية العامة للتوظيف والفائدة والمال”. والذي أصبح معيارًا للفكر الاقتصادي العالمي على مدى العقود التالية. وفيه حاول كينز فهم أسباب أزمة الكساد العظيم التي مثلت أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخ العالم الصناعي.
  • يبدأ تاريخ الاقتصاد الكينزي مع أزمة الكساد العظيم. كما أن نظرية وسياسات الاقتصاد الكينزي هيمنت في الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية الى منتصف السبعينيات.
  • أمثلة على تطبيقات النظرية الكينزية خلال الأزمات الاقتصادية:
    • صفقة روزفلت الجديدة.
    • إجراءات رونالد ريجان (ريجانوميكس).
    • استراتيجية كلينتون الاقتصادية.
    • جورج دبليو بوش وقوانين التحفيز والتوظيف.
  • سياسات أوباما في مواجهة الأزمة المالية العالمية
    • برزت النظرية الكينزية كأحد أهم الحلول لمواجهة الأزمة المالية العالمية عام 2008.
    • أطلق الرئيس أوباما برنامجه الاقتصادي “أوبامانوميكس”. والذي يُشير إلى السياسات الضريبية وإصلاحات الرعاية الصحية وبرامج التحفيز الاقتصادي لمواجهة الركود الاقتصادي لعام 2008.
  • نجحت السياسات التحفيزية والتوسعية في بعض الأحيان. كما هو الحال مع إجراءات كلينتون وأوباما. بينما فشلت في أحيان أخرى، مثلما حدث مع جورج دبليو بوش.
  • على مدار تاريخ الاقتصاد الكينزي، واجهت النظرية الكينزية كثيرًا من الانتقادات، ومن أبرزها:
    • أن السياسات المالية التوسعية قد تدفع أحيانًا باتجاه زيادة معدلات التضخم.
    • كذلك، قد تتسبب في تقليص دور استثمارات القطاع الخاص.

للمزيد من المقالات ذات الصلة، يرجى متابعة موقع بورصات.